التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تاريخ أوربا في العصور الوسطى المحاضرة الأولى

تاريخ أوربة في العصور الوسطى

المحاضرة الأولى        

- يطلق اصطلاح العصور الوسطى على الفترة الزمنية التي تمتد من القرن الرابع الميلادي إلى القرن السادس عشر الميلادي .
واختلف المؤرخين حول تحديد بداية العصورالوسطى ونهايتها، فبعضهم يرى أن بداية العصورالوسطى (سنة 476 م) وهو تاريخ سقوط "روما" بأيدي "البرابرة الجرمان" والبعض من يعتبر العصورالوسطى ( سنة 330 م ) وهو تاريخ بناء مدينة " القسطنطينية" ، والبعض أيضاً يعتبر ( سنة 395 م ) بداية العصورالوسطى وفي هذا التاريخ انقسمت فيه الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين شرقي وغربي ، والبعض الآخر من يحدد بداية العصور الوسطى مع انتشار " المسيحية" ، والبعض الآخر يعتبر فترة "الغارات البربرية" و تشكل " الممالك الجرمانية " هو بداية العصور الوسطى .

أما نهاية العصور الوسطى فيحددها البعض بـ( سنة 1453 م ) وهو تاريخ سقوط بيزنطة بأيدي الأتراك العثمانيين .
وأيضاً يحدد البعض نهاية العصور الوسطى ب( سنة 1492 م ) تاريخ اكتشاف"أمريكا" ، والبعض من يحدد نهاية العصور الوسطى في " النهضة الثقافية" في أواخر القرن الخامس عشر و أوائل القرن السادس عشر الميلادي .
والحقيقة أن التاريخ عبارة عن حلقة متصلة لا يمكن الفصل فيه ، وإنما تم تجزئة التاريخ إلى فترات زمنية محددة حيث نقول التاريخ القديم والتاريخ الوسيط والتاريخ الحديث والتاريخ الحديث والمعاصر، والمقصود من هذا التقسيم التسهيل على الباحث و القارىء .
- وقد تم اعتبارالقرنيين الرابع والخامس الميلاديين بداية العصورالوسطى لأسباب عدة منها:

1- من الناحية السياسية :    
فقد كان في العالم قبل القرنيين الرابع والخامس يوجد إمبراطوريات كبرى مثل المصرية والآشورية
والرومانية والمقدونية والفارسية .

كما أن الإمبراطورية الرومانية غدت في أوج قوتها واتساعها وأصبح يحكمها الدستور وظهر فيها التعدد في عبادة الآلهة .
أما اعتباراً من القرنيين الرابع والخامس فقد ظهرت ممالك متعددة مثل "الغوط الغربيون" في "إسبانية" و "الغوط الشرقيون" في "إيطالية" و"الفرنجة" في " فرنسة" و"الواندال" في " شمال أفريقية" .  
وإذا ظهرت بعض الإمبراطوريات في تلك الفترة مثل "إمبراطورية شارلمان" فإن هذه الإمبراطورية كانت قوية من الناحية السياسية لكنها ضعيفة من الناحية الاقتصادية ، كما أنها كانت مرتبطة بشخصية إمبراطورها ، لذلك عندما مات " شارلمان" ضعفت هذه الإمبراطورية ثم سقطت . 

2- من الناحية الاقتصادية و الاجتماعية :   
كان ينتشر في الإمبراطورية الرومانية " نظام العبودية"، أما فيما بعد فقد تناقص عدد العبيد في القرنيين الرابع والخامس الميلاديين ، وأصبحت " طبقة الكولون" هي الطبقة المنتجة الرئيسية ، وتدرجياً رسخت أسس النظام الإقطاعي ، فأصبحت طبقة "الأقنان" هي الطبقة الرئيسية المنتجة ، الأمر الذي أدى بالتالي إلى انتشار وسيادة النظام والعلاقات الإقطاعية بدلاً من النظام والعلاقات العبودية .


3- من الناحية الفكرية :
تميزت العصور القديمة بسيطرة الوثنية وعبادة الآلهة المتعددة ، أما في القرنين الرابع والخامس  ظهرت وانتشرت الديانة المسيحية القائمة على عبادة إله واحد بدلاً من الآلهة المتعددة ، كما اعترف " قسطنطين الأول الكبير" بالمسيحية ديانة رسمية للدولة .
- كما تم اعتبار القرنيين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين نهاية العصور الوسطى لأنه حصلت تطورات مختلفة في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية .
1- من الناحية السياسية :
ففي ( سنة 1453 م ) فتح العثمانيون الأتراك " القسطنطينية" عاصمة الدولة البيزنطية ، كما توقفت " حرب المئة عام " بين " فرنسا" و"إنكلترة" ، كما انضمت " بروسيا الغربية " إلى " بولونيا " ( سنة 1466م ) ، كما تحررت " روسيا" من الاستعمار المغولي ( سنة 1480 م ) ، كما خرجت "الأندلس"
و إسبانية من أيدي العرب المسلمين ( سنة 1492 م ) ، كما تم اكتشاف أمريكا في نفس السنة ، كما بدأت حركة إصلاحية في " ألمانية" ، ونهضة ثقافية في " إيطالية " ، وبالتالي تشكلت دول قومية في أوربة ، وحلت فكرة التعدد محل فكرة الوحدة  .
2- من الناحية الاقتصادية و الاجتماعية :
فقد انقلب الاقتصاد الزراعي المغلق السائد في العصور الوسطى إلى اقتصاد صناعي – تجاري منفتح ينزع إلى الرأسمالية و المبادلة الدولية ، و بالتالي أطاحت القوى الإقطاعية بالقوى البرجوازية وحلت محلها في استغلال الطبقات الكادحة .
3- من الناحية الفكرية :
فقد أخذت المفاهيم الدينية المألوفة في العصورالوسطى تتغير ، كما تحررت العقلية الأوربية من سيطرة الدين ، كما دحرت الكنيسة أمام الفكر العلماني في النواحي كافة ، كما قامت الحكة الإنسانية ببعث الثقافة الكلاسيكية ( اليونانية و الرومانية) ، كما بدأت آلات الطباعة تنشر الأفكار التقدمية .
أما أول من أطلق اصطلاح العصور الوسطى أو العصر الوسيط فهم " الأدباء الإنسانيون " الإيطاليون    في القرنيين الخامس و السادس عشر الميلاديين ، ولقد نظر الإنسانيون إلى الثقافة الكلاسيكية على أنها ثقافة جيدة جداً وأعجبوا بها وخاصة " بترارك"، بينما نظروا إلى الفترة الزمنية المحددة بسقوط "روما" وسقوط "القسطنطينية" على أنها فترة جهل وظلام مرت بها أوربا .



البرابرة

أطلق اليونان و الرومان كلمة برابرة على كل الشعوب التي لا تتكلم اليونانية أو اللاتينية ، وأهم هذه الشعوب :
1- الكلت :
عاش " الكلت" في البدء في شمال أوربا ، وكان الرومان يسمونهم " الغال" ، تحركوا في القرن الخامس ق . م من موطنهم الأصلي ، فاستقر أكثرهم في " فرنسة"(غاليا) ولذلك سميت باسمهم ، وقسم آخر في " بريطانية" و" إيرلندا " و" إسبانية " ، كما وصل بعضهم إلى " البلقان " و" آسيا الصغرى" ، وقد عاشوا على شكل قبائل وشكلوا أحياناً تحالفات فيما بينهم لكنها لم ترقى إلى مستوى الدولة ، وفي القرن الأول ق . م ظهرت الفروق الطبقية في المجتمع الكلتي ، ثم احتل الرومان "غاليا" ، وفي القرن الأول الميلادي احتلوا " بريطانية" لذلك تأثر "الكلت" في هذين البلدين بالحضارة الرومانية. 2- الجرمان :
 تشكل"الجرمان" من شعوب عديدة أهمها"الغوط الشرقيون" و"الغوط الغربيون" و"الواندال"و"الألان"
و"البرجنديون" و"اللومبارديون" و"الفرنجة" و"الأنغلوسكسون" و"الألمان" و"النورمانديون" وغيرهم

فالمناطق المحيطة بـ" بحرالبلطيق" هي الموطن الأصلي للجرمان ، ومن هناك انحدروا نحو الجنوب حتى وصلوا حدود الإمبراطورية الرومانية ، وكانوا في البداية يهتمون بتربية الحيوانات و الصيد أكثر من الزراعة ، كما كانت تسود بينهم العلاقات القبلية البدائية ، فقد عاشوا على شكل قبائل متفرقة وأحياناً كانت تتحد عدة قبائل بقيادة زعيم واحد لتنفيذ عملية حربية معينة ، وذلك حسب ما كتب عنهم حاكم "غاليا"الروماني" يوليوس قيصر"(بين سنتي 58 – 52 ق. م) في النصف الأول من القرن الأول ق.م .
أما في القرن الأول الميلادي فقد حدثت تطورات في العلاقات الاقتصادية و الاجتماعية عند " الجرمان" ونلاحظ ذلك من خلال كتاب"جرمانا" للمؤرخ الروماني " تاسيتوس" ( سنة  98 م ) ، فقد ذكر أنهم أصبحوا يهتمون بالزراعة أكثر من ذي قبل ، كما أخذوا يميلون إلى الاستقرار أكثر من ميلهم إلى الحياة الحربية ، كما اهتموا بالصناعة مثل " حياكة المنسوجات الصوفية والكتانية" و" صناعة الأواني الفخارية " و" الأدوات المعدنية " ، كما كانوا يبيعون " الملح" و" المعادن" و " الكهرمان" للرومان من أجل الحصول على العملة الذهبية والفضية .

كما أصبحت تظهر الفروق الطبقية حيث ظهرت طبقة أرستقراطية قبلية امتلكت الأراضي و الكثير من العبيد وقطعان الماشية .
وكان العبيد عند " الجرمان" يحصلون على حصة من الإنتاج مقابل عملهم ، أما عند الرومان كانوا يعملون مقابل الحصول على قوتهم اليومي ، وظهرت عندهم "المجالس القبلية" وكان يترأسها زعماء العشائر والبطون فكان الزعماء وحدهم الذين يقترحون وما على العامة ( أفراد القبيلة البسطاء ) الذين يحضرون في هذا المجلس أيضاً إلا أن يعبروا عن موافقتهم بقرقعة السلاح ويعبرون عن عدم الموافقة بالضجيج والصراخ ، ثم ظهر زعماء أشبه بالملوك وتكونت أسر حاكمة ، ولم يعرف "الجرمان" الضرائب وإنما كانوا بدلاً عنها يقدمون الهدايا إلى الأمراء والزعماء  .
وقد اصطدم " الجرمان" بالرومان في القرن الأول قبل الميلاد ، فتوغل الرومان في أراضيهم بعد عبورهم  لنهر الدانوب ، وفي ( سنة 9 م ) دحر " الجرمان" القوات الرومانية على ضفاف نهر الراين ، وفي الفترة الممتدة بين سنتي ( 165 – 180 م ) اخترق " الجرمان" حدود الإمبراطورية فاضطر الرومان أن يحشدوا قواتهم للتصدي للجرمان .

وزادت غارات "الجرمان" على حدود الإمبراطورية الرومانية في القرن الثالث الميلادي لأن الإمبراطورية الرومانية تعرضت في هذا القرن إلى أزمة اقتصادية خانقة بسبب ثورات العبيد وتمرد الفرق العسكرية ، وقد حصل تبادل حضاري بين الرومان و الجرمان نتيجة الاصطدامات الحربية من جهة و العلاقات السلمية والتجارية من جهة أخرى .
فقد كان بعض " الجرمان" يزورون " روما" ويتلقون فيها الثقافة اللاتينية .
3- السلاف :
كان " السلاف" يقطنون في القرنيين الأول و الثاني الميلاديين في المنطقة الواقعة بين " بحر البلطيق" شمالاً و"جبال الكربات " جنوباً . 
وفي القرن السادس انحدر "السلاف" إلى ضفاف " نهر الدانوب" و شواطىء البحر الأسود الشمالية ، ثم انحدر بعضهم إلى شبه جزيرة " البلقان" في القرن السابع .
وكان هؤلاء يعيشون على الزراعة و تربية الحيوانات والصيد ، ويذكر " بروكوبيوس" أن " السلاف" كانوا قديماً يعيشون حياة قبلية ديمقراطية،أما في القرن السادس الميلادي فقد نشأة بينهم طبقةأرستقراطية 
تضم أمراء العشائر و البطون ، كما برز منهم زعماء يترأسون قبيلة واحدة أو عدة قبائل في أوقات الحروب ، كما عرفوا " المجالس القبلية " المكونة من أمراء العشائر و البطون ، كما وجد عندهم العبيد ولكنهم كانوا يستعبدون العبيد إلى فترة زمنية معينة ثم يطلقون صراحهم .
وفي البدء استخدم " السلاف" أسلحة بدائية كالسيف و الترس و القوس ، ثم عرفوا الأسلحة البيزنطية المتطورة ، واشتهر " السلاف" بشجاعتهم و حبهم للحرية ، كما ذكر الإمبراطور البيزنطي " موريس"

في تقريره الحربي " أن القبائل السلافية تميل إلى الحرية و يصعب استعبادها"
ولا بد من الإشارة أن هذه المعلومات مأخوذة من المؤرخين البيزنطيين في القرن السادس الميلادي مثل " بروكوبيوس " و" أغابيوس" و" يوحنا الأفسوسي " والمؤرخ القوطي " بوردانيوس" .
4- الهون و الإمبراطورية الرومانية :
"الهون" قبائل تركية مغولية تحركوا في القرن الرابع الميلادي من " منغوليا" نحو الغرب ، فخضعت لهم القبائل القاطنة بين "الفولغا" و"الدون" و"القفقاز" ، ومنها "الألاّن" و" الغوط الشرقيون"، ثم تابعوا زحفهم غرباً حتى وصلوا " نهر الدانوب" فاضطر"الغوط الغربيون" أن يعبروا هذا النهر إلى أراضي الإمبراطورية الرومانية خوفاً من " الهون" .   
كان "الهون" في البدء يعيشون على شكل قبائل متفرقة تأتمر كل واحدة منها بأمر زعيمها وقد تمكن أحد الزعماء وهو" روجيلا" أن يخضع قبائل "الهون" لسلطته ويؤسس دولة بدائية ، وعندما مات"روجيلا" ولم يكن له ولد ليخلفه ، فورث الملك ابنا أخيه " موندزوك" وهما ( بليدا و أتيلا ) .
لكن"أتيلا" قتل أخاه "بليدا" و ترأس قبائل"الهون" وحده ، واعترفت بسلطته جميع الشعوب القاطنة بين "الرين والفولغا" وقدمت له الجزية،كان"أتيلا" ذو شخصية عنيفة مرعبة ورجل حرب قاسي،أطلق عليه معاصروه"بلاء الرب" وقد قال عن نفسه:" لن تنبت الأعشاب حيث يضرب حصاني الأرض بحوافره".
وكان له طريقة في الحروب هي إبادة المغلوبين حتى آخرهم أو إجبارهم على الانضمام إلى جيشه .  
تحرك " أتيلا" بجيشه نحو الغرب حتى وصل إلى ط غاليا" (فرنسا) ( سنة 451 م ) ، ولصد هذا الخطر الداهم من الشرق تحالف القائد الروماني"آئسيوس" مع بعض القبائل الجرمانية ، وفي "غاليا" جرت معركة بين"الهون" والجيوش الرومانية في منطقة "السهول الكاتالونية" حيث هزم فيها "الهون" وتقهقروا إلى "إيطالية" ولم يلاحقهم الرومان بسبب الخلاف مع حلفائهم الجرمان ، وفي "إيطالية" أخذ " أتيلا" يستعد لاحتلال " روما"، لكن جيشه أصيب بمرض الطاعون ، فاضطر أن يقبل بفدية مالية من الرومان مقابل إجلاء قواته من "إيطالية" ، وفي (سنة 453 م) مات "أتيلا" ونشب الخلاف بين الهون أنفسهم ، مما أدى إلى تمزق وحدتهم وتشتتهم .  

- تشكل الممالك البربرية على أراضي الإمبراطورية الرومانية :   
1- مملكة الغوط الغربيون في جنوب غاليا :
عندما زحفوا "الهون" إلى أوربة في النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي فر "الغوط الغربيون" أمامهم وطلبوا من إمبراطور " القسطنطينية" " فالانس" ( 364 – 378 م ) أن يسمح لهم بعبور نهر الدانوب إلى أراضي الإمبراطورية الرومانية فواق على طلبهم وسمح لهم بالإقامة في إقليم " ميزيا " جنوب نهر الدانوب الأدنى ، مقابل أن يكونوا حلفاء للرومان ، و وعدهم " فالانس" بالإعفاء من الضرائب ، ولكن سرعان ما فرض الرومان عليهم ضرائب باهظة ، لذلك قاموا بالثورة و أوقعوا الهزيمة ببيزنطة وقتلوا الإمبراطور " فالانس" في معركة جرت عند مدينة " أدريانوبل"(سنة 378 م).
و هدد " الغوط الغربيون" العاصمة البيزنطية في عهد الإمبراطور" تيودوسيوس الأول"(378-395م) لذلك سمح لهم بالإقامة في منطقة " تراكيا" في الشمال الشرقي من البلقان ، وبعد وفاة " تيودوسيوس الأول " نقد " الغوط" الاتفاق وهاجموا " مقدونيا" و " اليونان" بقيادة زعيمهم " ألارك" ، لذلك طلب إمبراطور" القسطنطينية"" أركاديوس" المساعدة من أخيه " أونوريوس" ( إمبراطور روما ) فجاءت القوات العسكرية من" روما" بقيادة " ستيليكو" ( 397 م ) لذلك انسحب الغوط من اليونان وتجمعوا في شبه جزيرة " المورة" ، وكان باستطاعة " ستيليكو" أن يطبق بقواته عليهم ولكنه لم يفعل  ذلك ربما لتعاطفه معهم لأنه من أصل بربري أو ليترك سلطات "القسطنطينية" و" روما" في حالة ارتباك ، ولكي يخلص" أركاديوس" القسم الشرقي من الإمبراطورية من خطرهم  صالحهم ومنح زعيمهم"ألارك" لقب قائد في الجيش البيزنطي، وسمح لهم بالإقامة في القسم الشمالي من" ايليّريا" شرق البحر الأدرياتيكي . بناءً على تشجيع من " أركاديوس" تحرك "الغوط" بقيادة " ألارك" نحو " إيطالية" ( سنة 401 م ) .
ولكن " ستيليكو" أوقف زحف الغوط وتعهد بإعطائهم مساعدة مالية سنوية مقابل امتناعهم عن مهاجمة " روما" ، ورداً على ذلك اتهم إمبراطور روما " أونوريوس"" ستيليكو" بالخيانة وأعدمه ، استغل

" ألارك" مقتل " ستيليكو" للضغط على "روما" فطلب من " أونوريوس" تعينه حاكماً على المنطقة الممتدة إلى الشمال من البحر الأدرياتيكي وأن يقدم له سنوياً إعانات مالية ، لكن " أونوريوس" لم يوافق على مطالب " ألارك" فزحف "الغوط الغربيون" إلى"إيطالية" و احتلوا " روما" ( سنة 410 م ) ونهبوها بينما هرب الإمبراطور من المدينة .
بعد احتلال "روما" زحفوا إلى جنوب "إيطالية" و أرادوا احتلال " صقلية" و" شمال أفريقية" ، ولكن فشلوا في ذلك لتعرض سفنهم لعواصف بحرية ، كما مات زعيمهم " ألارك" أثناء الحملة الفاشلة .
وبعد موت " ألارك" تولى قيادة الغوط الغربيون " أوتولف" ، الذي طلب من " أونوريوس" أن يسمح للغوط بالاستيطان جنوب غرب "غاليا" ، فوافق على طلبه كما زوجه أخته " كالابلاسيديه" ، وبذلك أسس الغوط الغربيون مملكة لهم في جنوب غرب "غالية" و شمال "إسبانية" ( سنة 419 م ) واتخذوا من " تولوز" عاصمة لهذه المملكة ، ثم توسعوا جنوباً فسيطروا على معظم "إسبانية" ، وعلى الرغم من محاولة الإمبراطور البيزنطي" جستنيانوس الكبير" احتلال مملكة الغوط الغربيون في منتصف القرن السادس ، فقد ظل الغوط يحكمونها حتى فتحها العرب في أوائل القرن الثامن الميلادي فزالت مملكتهم من صفحة التاريخ .     
2- قيام مملكة الفندال ( الوندال ) في شمال أفريقية و سقوطها : 
الفندال قبائل جرمانية رحلت منذ مطلع القرن الخامس الميلادي من "ألمانية" إلى "إسبانية" ومنها إلى
" شمال أفريقية" وذلك في ( سنة 429 م ) بقيادة زعيمهم " جيزريك" نتيجة لضغط الغوط الغربيون عليهم ، وشكلوا مملكة لهم في "شمال إفريقية" مستفيدين من الخلافات الدينية .
 و سقطت " قرطاجة" بيدهم ( سنة 439 م ) ولم تأتي ( سنة 455 م ) حتى كانت شمال أفريقية كلها قد خضعت لهم .   
وكانت هذه المملكة سبباً في تدهورالإمبراطورية الرومانية في الغرب وذلك للنتائج التي أدت إليها وهي:
1-   خسرت الإمبراطورية الرومانية القمح الذي كانت تحصل عليه من شمال إفريقية .
2-   ضياع الجزية التي كانت تؤديها شمال إفريقية إلى الإمبراطورية الرومانية .
3-   تعرضت تجارة البحر المتوسط للنهب على أيدي قراصنة الفندال .
4-   أصبح الفندال أعظم قوة بحرية في غرب البحر المتوسط .
5-   قطع الاتصالات البحرية بين إيطالية و بقية الغرب الأوربي . 
6-   في (سنة 455 م) احتل الوندال مدينة " روما"، واستباحوها مدة (14 يوماً) وقتلوا إمبراطورها.
7-   أصبحت " سردينية" و" كورسيكة" و"صقلية" و" سواحل إيطالية" تحت رحمة الفندال .
8-   في ( سنة 467 م ) قام الإمبراطور " ليون الأول" بحملة ضد الوندال باءت بالفشل .
- وفي ( سنة 533 م ) أرسل الإمبراطور البيزنطي " جستنيانوس الأول الكبير" قائده " بيليزاريوس" على رأس حملة عسكرية استطاعت أن تقضي على الوندال في شمال أفريقية( سنة 534 م ) .
3- مملكة الغوط الشرقيون في إيطالية :
في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي غمرت شبه جزيرة البلقان بالغوط الشرقيون ، الذين هددوا " القسطنطينية" بقيادة زعيمهم " ثيودوريك" ، لذلك دفع لهم الإمبراطور البيزنطي " زينون الأيسوري " مبلغاً من المال وشجعهم على التوجه إلى الغرب ، لاستعادة "إيطالية"( روما) من الأسرة الجرمانية بزعامة " آدوا كر" ، وكانت لـ " زينون " أهداف هي :
1-   أن يتخلص من عبء المبالغ المالية التي كان يدفعها لـ " ثيودوريك" .
2-   أن يخلص إقليم "ايليرية" من الكابوس الغوطي الذي يعيث فيه فساداً .
3-   أن يسترد " زينون" سيطرته على إيطالية .
4-   كما توقع " زينون" أن " ثيودوريك" سوف يساعده في تدعيم السيادة الإمبراطورية في الغرب الأوربي عامة و ليس في إيطالية فحسب .
وفي ( سنة 489 م ) توجه " ثيودوريك" نحو الغرب وهزم"آدوا كر" في موقعتين الأولى في" فيرونة"
والثانية في"ميلان"، ثم حاصره في مدينة "رافنا"، ووقع "ثيودوريك" صلحاً معه ثم عمل علىاستدراجه إلى مفاوضة وتم قتله بغتة وغدراً ، وبذلك شكل الغوط الشرقيون مملكة لهم في إيطالية ( سنة 493 م ) .
- سياسة " ثيودوريك" الخارجية :  
1- عقد سلسلة من المعاهدات مع الملوك المعاصرين له ، حيث تزوج من شقيقة ملك الفرنجة
   " كلوفيس" و زوج إحدى بناته إلى " ألارك الثالث " ملك الغوط الغربيين ، وزوج أخته من ملك الفندال .
2- حطم كنيسة القديس " أرستيفن" في ضواحي " فيرونة " .
3- أخذ يفكر في تأسيس مملكة جرمانية تحت قيادة الغوط تشمل إيطالية و غاليا و إسبانية .
- وبعد وفاة " ثيودوريك" تسلمت ابنته "أمالاسونثه"(أمالاسونت) الوصاية على ابنها الصغير"أتالاريك" حفيد الملك الراحل، وبعد وفاة ابنها" أتالاريك"( 534 م) و زواجها من ابن عمها" تيودات" ألقي القبض عليها وأعدمت لتعاونها مع الرومان واتصالها سراً مع الإمبراطورالبيزنطي" جستنيانوس" ( 535  م ).
- وفي ( سنة 536 م ) أرسل " جستنيانوس" حملة ضد الغوط الشرقيين نجحت في القضاء عليهم
وعادت إيطالية إلى حظيرة الإمبراطورية الرومانية .


ويمكن أن نستخلص النتائج التالية :
1-   استمرت الحرب بين الطرفين ( عشرين عاماً ) .
2-   كان الصراع بين الطرفين صراعاً عنيفاً .
3-   قاد الجيوش البيزنطية القواد " بيليزاريوس" و" نارسيس" و" جرمانوس" ، في حين قاد الغوط الملوك " تيودات" و " تيّا" وكان أشهرهم " توتيلا" . 
4-   كانت خسائر البيزنطيين المنتصرين خسائر فادحة ، حيث خربت الزراعة و الصناعة و الطرق التجارية في شبه الجزيرة .
5-   انتهى الصراع بين الطرفين بالقضاء على مملكة الغوط الشرقيين ( عام 555 م ) في عهد
    " جستنيانوس"  .         
- أهم النظريات المتعلقة بسقوط الإمبراطورية الرومانية في الغرب:
1- نظرية القديس أوغسطين ( 354 – 430 م ) :
ولد "أوغسطين" من أبوين رومانيين عام ( 354 م ) في مدينة " تاجستا" ( شرقي الجزائر حالياً) وفي ( عام 395 م ) أصبح زعيماً للكنيسة الكاثوليكية في شمال إفريقية ، وفي ( عام 412 م ) ألّف كتاب سماه " مدينة الله" وكان سبب تأليفه هوأنه عندما سقطت الإمبراطورية الرومانية و عاصمتها " روما" بيد " ألارك" زعيم الغوط الغربيين (سنة  410 م) قال الوثنيين ومنهم المؤرخ الوثني " زوسيموس" صاحب كتاب "التاريخ الجديد":  أن سقوطها هو انتقاماً للوثنية و أن المسيحية هي المسؤولة عن خراب الإمبراطورية الرومانية ، لذلك ألّف هذا الكتاب الذي بين فيه أن سقوط الإمبراطورية الرومانية هوإرادة ربانية ولا علاقة للمسيحية بسقوط الأمبراطورية الرومانية ، وقد ذكر في آخر كتابه أن "روما"الخاطئة سقطت لتمهد السبيل لانتصار مدينة الله الخالدة .   2- نظرية المؤرخ الإنكليزي إدوار جيبون ( 1737 – 1794 م ) :       
يرى " إدوار جيبون" في كتابه " اضمحلال الإمبراطورية الرومانية و سقوطها " أن تدهور الإمبراطورية الرومانية هو نتيجة لعظمة فقدت الاعتدال فالرفاهية أنضجت مبدأ الاضمحلال والسقوط ، كما بين دور الجيوش التي أطبقت على حرية الدولة ثم حطمت جلال الملك وعظمته، كما هاجم"جيبون" المسيحية وحملها مسؤولية التدهور، وقال : بدلاً من الإنفاق على الجيش و دفع معاشات الجند  راحت الأموال تعطى للرهبان الذين يدعون العالم إلى العفة والعزلة والتقشف ، وقال لقد تحول اهتمام الأباطرة من المعسكرات إلى المجالس الكنسية .
3- نظرية المؤرخ الروسي الأصل رستوفيتزف ( 1870 – 1952 م ) :  
يرى " رستوفيتزف " في كتابه " التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للإمبراطورية الرومانية "  أن الإمبراطورية الرومانية سقطت لأسباب يمكن أن نلخصها في النقاط التالية :
1-   تسرب الطبقات الدنيا إلى الطبقات العليا و حصولها على أعلى المناصب و تمكنها من السيطرة على جيوش الإمبراطورية الرومانية .  
2-   يرى أن تعلم الطبقة الدنيا كان ضئيلاً لذلك لم  يستوعبوا التقاليد الإمبراطورية و المثل الرومانية .
3-   يرى أن الطبقات العليا لم تستطع التعاون مع العناصر الجديدة ، لذلك اندلعت الحرب الأهلية ،
و بالتالي طغت العناصر الهمجية البربرية، فأغرقت الحضارة الرومانية بالتسلل حيناً و بالفتح حيناً آخر .  

4-   يرى أن الحضارة لا تدوم إلا إذا أصبحت تخص كل فئات الشعب ، وليس حضارة طبقة واحدة فقط .   


4- النظرية البيولوجية : 
يرى أصحاب هذه النظرية أن سبب انحطاط الأمبراطورية الرومانية هو القضاء على خير العناصر في الحروب لأهلية والخارجية .
 ويرى بعض هؤلاء الباحثين أن امتزاج دم الطبقات الدنيا بدم الطبقات العليا في المجتمع الروماني قد دنس الطبقات الأخيرة هذه .
ويرى فريق ثالث من الباحثين أن الطبقات العليا لا تدنس ولا يقضى عليها وإنما تنتحر بعدم التوالد ، بينما الطبقات الدنيا تتكاثر بدون قيود .
5- النظرية الاقتصادية :
يرى أصحابها أن أسباب سقوط الإمبراطورية الرومانية هي :
1-   ركود التجارة ، وانخفاض الإنتاج الزراعي والصناعي وندرة الذهب والفضة في القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية .
2-   ذلك لأن السلطات الرومانية كانت تمنع أفراد الطبقات العليا من العمل بالصناعة والتجارة ، لأن العمل من مهمات العبيد ولا يليق بالأسياد ، وهؤلاء العبيد أصبحوا قلائل بسبب توقف الفتوحات مما أدى إلى ركود التجارة و انخفاض الإنتاج الزراعي والصناعي .
3-   إن تحوّل الذهب من الغرب إلى الشرق لشراء السلع الكمالية كالحرير والتوابل كان السبب في الانهيار الاقتصادي الذي أصاب الإمبراطورية وبالتالي أدى إلى سقوطها ، وسرعان ما لحق الاقتصاد بالذهب ليصبح اقتصاداَ بدائياً يعتمد على المقايضة ، بعد أن كان اقتصاداً نقدياًََ يعتمد على رأس المال .
6- نظريات أخرى :
1- هناك نظريات أخرى حيث يرى الباحث " دوسن" أن الجيش الروماني كان يتألف من المواطنين الرومانيين ثم أصبح يتألف من المرتزقة بقيادة ضباط أو قواد أنصاف سياسيين وأنصاف عسكريين مغامرين .
2- ويرى بعض الباحثين أن أسباب سقوط الإمبراطورية الرومانية هو عدم إعطاء الجماهير نصيباً في الحكم .
3- و يرى البعض الآخر أن الانحلال الأخلاقي كان سبباً في تدهور الأمبراطورية الرومانية و سقوطها. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فن العمارة الإسلامية في العصر المملوكي والعثماني

العمارة في العصر المملوكي والعثماني أولاً – العمارة في العصر المملوكي : ظهرت في هذا العصر في القاهرة منشأت معمارية ضخمة ، هي أشبه بالمجمعات التي تمتاز بمساحتها الكبيرة وارتفاعاتها الشاهقة ، وتتألف غالباً من مدرسة وتربة وبيمارستان ، وتضم أحياناً سبيلاً وكتاباً أيضا ، ونذكر منها على سبيل المثال :  مجموعة السلطان قلاوون ،  مدرسة وخانقاه الأشرف برسباي ،  مدرسة ومسجد قايتباي ،    بينما لم   تشيد في بلاد الشام أبنية ضخمة ، بل كانت منشأت هذا العصر ، أصغر من منشأت العصور السابقة ، وسنقصر حديثنا على منشأت العصر المملوكي في بلاد الشام  تميزت منشأت هذا العصر في بلاد الشام بما يلي : 1- استمر الشكل التقليدي للمسجد : صحن جنوبيه القبلية وتحيط به أروقة من الشرق والغرب والشمال في معظم المساجد التي أنشئت في حلب وكذلك المدارس ، إذ صارت المدارس تستعمل كمساجد أيضا في هذا العصر ، أما في دمشق فقد ألغي الصحن في بعض المساجد والمدارس وسقفت في بعضها الآخر . 2- تفتح أبواب المنشآت ضمن إيوان سقفه في معظمها نصف ...

فن العمارة الإسلامية في العصر الأيوبي في مصر وبلاد الشام

العمارة الأيوبية في مصر وبلاد الشام اعتنى الأيوبيون ببناء المساجد والمدارس و الخانقاهات ، كما اهتموا ببناء القلاع و تحصين المدن بالأسوار و الأبراج الدفاعية ، بسبب حالة الحرب بينهم وبين الصليبين ، ويمكننا اعتبار فن التحصين في العمارة الأيوبية نهاية مراحل التطور في هذا المجال إذ لم يظهر أي تجديد ملحوظ في العهود اللاحقة ، فالمنشآت الأيوبية العسكرية نموذج لأرقى ما وصل إليه هذا الفن على المستوى العالمي ، وليس على نطاق الحضارة الإسلامية   فقط ، يمكننا أن نوجز أهم خصائص العمارة الأيوبية في ما يلي : 1-    التقشف وعدم الإسراف في الزخرفة ، بسبب الحرب مع الصليبين 0 2-    القوة وإتقان التخطيط والبناء ، ودقة النسب ، مع ضخامة المنشآت بالنسبة للعصور السابقة 0 3-    الاعتماد على الحجر المنحوت بأبعاد كبيرة كمادة أساسية في الواجهات و الأعمدة وتيجانها ، وأحياناً في القباب والأقبية 0 4-    ظهورالأروقة بالإضافة إلى الأواوين في المدارس وخاصة في حلب ، وهذا تطور جديد لم يستعمل من قبل . 5-    اعتماد التسقيف على القباب لدر...

فن العمارة الإسلامية في العصر السلجوقي والزنكي والفاطمي

آثار السلاجقة و الزنكيين                          تبدأ هذه الفترة من ظهور السلاجقة و سيطرة " طغرل بك " على " بغداد" ( عام 447هـ ) ، ( وكان قد أقام دولة في " خراسان" (عام 429هـ ) ، إلى نهاية الحكم الزنكي و قيام الدولة الأيوبية (عام569هـ ) ، وقد أقيمت دولة تابعة للسلاجقة في " بلاد الشام" ( عام 458هـ ) 0 و ابتدأ حكم الزنكيين باستيلاء " نور الدين زنكي " على " دمشق" ( عام549 هـ ) 0 ادخل السلاجقة إلى بلاد الشام ومصر صنوفاً كانت شائعة في الشرق ولاسيما في فارس و العراق 0 و ظهرت في عهدهم المدرسة كمؤسسة ثقافية ومعمارية جديدة عامة ، وقد كانت قبل عهدهم مؤسسة خاصة ، كما شيدت في عهدهم الخانقاهات كمنازل للصوفية   ، و البيمارستانات لتقوم بدور المستشفيات ومدارس الطب وغير ذلك من الأبنية العسكرية كالقلاع و أسوار المدن 0 حدث تطور ملحوظ في هذا العصر على فنون العمارة  ، وظهرت عناصر جديدة في مجال التخطيط والإنشاء والزخرفة ، مما أعطى للعمائر مظهراً...